السودان- فيتو روسي يكشف مخططات بريطانيا الاستعمارية الجديدة

بينما كانت الجموع السودانية تحتفل ببلوغ منتخبها الوطني الدور النهائي في بطولة الأمم الأفريقية لعام 2025، كان مجلس الأمن الدولي منكبًا على درس مشروع قرار بالغ الخطورة، تقدمت به المملكة المتحدة بشأن الأوضاع في السودان. هذا المشروع واجه استخدام حق النقض (الفيتو) من قبل روسيا، الأمر الذي أوقد شرارة معركة أخرى بين القوى الكبرى، مستحضرًا إلى الأذهان ذكريات اتفاقية سايكس بيكو الاستعمارية التي تعود إلى عام 1916. تلك الاتفاقية تعاملت، ولا تزال، مع الدول العربية والأفريقية كممتلكات خاضعة لنفوذها، متجاهلة سيادتها.
كذبة حماية المدنيين
على الرغم من أن السودان نال استقلاله رسميًا عن بريطانيا في عام 1956، يبدو أن الأخيرة غير مستعدة للتسليم الكامل بهذه الحقيقة. إن فقدانها لإحدى أهم مستعمراتها التاريخية يثير في نفسها حسرة عميقة. والأمر لا يقتصر على ذلك فحسب، بل إن ميل الخرطوم نحو روسيا يزعج الغرب عمومًا، الذي يفتقر إلى الإيمان بالمصالح المتبادلة ويسعى لفرض أفكاره الليبرالية وعملائه بالقوة القاهرة.
مشروع القرار البريطاني حث الأطراف المتنازعة، كما وصفها، على الوقف الفوري للأعمال العدائية والدخول بنيّة صادقة في حوار يهدف إلى الاتفاق على خطوات لتهدئة الصراع؛ وذلك بغية التوصل العاجل إلى وقف شامل لإطلاق النار على مستوى البلاد. كما أكد بقوة على وجوب حماية المدنيين الأبرياء.
ظاهريًا، أدان القرار الهجمات التي تشنها قوات الدعم السريع على المدنيين في منطقتي الجزيرة والفاشر، لكنه في المقابل تجاهل حقيقة أن مجلس الأمن قد سبق له مطالبة "الدعم السريع" بالكف عن محاصرة مدينة الفاشر، إلا أن هذه القوات لم تمتثل لتلك المطالب.
والأمر المثير للدهشة هو أن الدول نفسها التي تحث على احترام الحظر المفروض على توريد الأسلحة إلى دارفور لا تزال تمد قوات حميدتي بالسلاح، وكأن الأمر لا يعنيها على الإطلاق. بل إنها تستغل منظمات الأمم المتحدة ومنفذ "أدري" تحديدًا في تزويد الدعم السريع بالطائرات المسيّرة والصواريخ، بالإضافة إلى الدعم اللوجستي المتكامل. ولم تكترث البتة بتقرير فريق الخبراء الذي أشار بوضوح إلى الدول المتورطة في دعم الدعم السريع.
وجاءت الفقرة الخامسة عشرة من المشروع بصياغة تضفي شرعية على العمل خارج نطاق مجلس الأمن، وذلك من خلال ما يُعرف بـ "تحالفات الراغبين". وتمت إضافة سيراليون إلى مشروع القرار كإجراء شكلي بهدف التمويه. ونتيجة لذلك، فإن القرار البريطاني، حتى لو تم تمريره دون أي اعتراض، لن يخدم قضية السلام المنشود، ولن يوفر الحماية اللازمة للمدنيين الذين يتعرضون لأفظع الانتهاكات من نهب وسلب، وقتل وترويع، واغتصاب وإذلال، وإفقار وتجويع، وذلك باستخدام أسلحة غربية متطورة، الأمر الذي حول حياة الأبرياء إلى جحيم لا يطاق.
إعادة إنتاج الصراع
لا يخامرنا أدنى شك في أن بريطانيا لا تضمر الخير للشعب السوداني، بل هي متورطة بشكل مباشر في هذا الصراع الدائر، وتعمل بخبث ودهاء على إطالة أمد الحرب، وتهيئة الظروف المناسبة لفرض قوات أجنبية في مرحلة لاحقة.
كما أن هذا التوصيف المنحاز والمضلل ينزع الشرعية عن الحكومة السودانية المنتخبة، ويضعها في نفس الخانة مع قوة مارقة تمرّدت عليها، وسعت بكل قوة وعنفوان إلى انتزاع السلطة بالقوة، وأراقت في سبيل ذلك أنهارًا من الدماء الزكية. فيا له من تحامل وتجنٍّ على ميزان العدالة الدولية!
وربما لا يغيب عن فطنة الضمير العالمي، بل إن هذه بديهية مسلم بها في جميع الحروب التي شهدتها المنطقة، أن القوى الاستعمارية تستثمر في مثل هذه الصراعات من داخل المؤسسات الدولية، على غرار ما فعله ليوناردو دي كابريو في فيلم "الألماس الدموي"، عندما اعترف قائلاً في لحظة صدق تجسد الواقع: "نحن لا نمول الحروب، بل نخلق الظروف التي تجعلها تستمر وتشتعل".
علاوة على ذلك، فإن أي اتفاق متسرع لوقف إطلاق النار يحمل في طياته تفاصيل خفية، وهي في الواقع شياطين من صنع اللاعبين الكبار، وكل ما سيؤول إليه، بطريقة أو بأخرى، هو إعادة إنتاج الصراع الدموي وإذكاء نيرانه.
وبالتالي، فإن قوات حماية المدنيين، التي تتحدث عنها بريطانيا، والتي سعى من قبل إلى التمهيد لها تحالف جبال الألب تحت يافطة إنقاذ أرواح السودانيين، ستتحول إلى عبء ثقيل على الدولة، كما حدث لقوات اليوناميد في دارفور، التي ظلت تستنجد بالقوات النظامية لحمايتها من هجمات الجماعات المسلحة المتمردة.
والأخطر من ذلك هو أن وقف التصعيد أو منع التسليح بصورة جماعية يضر بموقف الجيش السوداني الوطني أكثر بكثير من قوات التمرد التي تتدفق إليها الأسلحة من كل حدب وصوب، بينما القوات المسلحة النظامية هي الجهة الوحيدة التي تمتلك الحق والشرعية في الدفاع عن الشعب السوداني وحماية أراضيه.
والأهم من كل ما سبق، وهو الأمر الذي لم يخضع لطاولة النقاش الجاد، هو أن وقف إطلاق النار دون شروط مسبقة، ودون استشارة الحكومة السودانية الشرعية وأخذ وجهة نظرها في الاعتبار، هو بمثابة مسكن مؤقت للآلام فحسب، ويحرم المواطنين من حقوقهم المسلوبة، ويسعى بالضرورة، كما تأمل بريطانيا، إلى إعادة تأهيل "الدعم السريع" عسكريًا واقتصاديًا، وتمكينها من رقاب السودانيين مرة أخرى، والإفلات من العقاب الرادع، وكذلك مكافأتها على الجرائم الشنيعة التي ارتكبتها، وذلك من خلال المشاركة الفاعلة في العملية السياسية، بموجب التسوية المشبوهة التي يسعون جاهدين إليها!
ملعب الصراعات الدولية
الأمر الغريب والمستهجن في جلسة مجلس الأمن التي تم فيها طرح هذا القرار المعيب والمغلوط، هو أن استخدام الفيتو الروسي قد أغضب الممثل البريطاني بشدة، فوجه اتهامات لاذعة وسبابًا مباشرًا إلى الرئيس الروسي، بصورة تفتقر إلى أدنى معايير اللياقة الدبلوماسية، حيث وصف الفيتو الروسي بأنه "عار مخزٍ".
وقد استدعى ذلك ردًا قاسيًا من نائب السفير الروسي لدى الأمم المتحدة، ديمتري بوليانسكي، الذي انتقد المسؤول البريطاني بشدة، واصفًا ما قدمه بأنه "مشروع استعماري بريطاني جديد"، ومنبهًا إلى أن ما سمعه منهم يجيب بوضوح على السؤال المحير: "لماذا تفقد المملكة المتحدة نفوذها وقوتها في العالم؟".
ثم أخذ يذكر الغرب بمعاييره المزدوجة الفاضحة في حالة غزة، حيث تمنح هذه الدول نفسها "تفويضًا مطلقًا" لإسرائيل حتى تواصل التصعيد العسكري، متجاهلة بشكل كامل الانتهاكات الصارخة للقانون الإنساني الدولي من قبل الجيش الإسرائيلي، وتمنحها أيضًا الأولوية المطلقة في الدفاع عن النفس وحماية مواطنيها، ولكن عندما يتعلق الأمر بالسودان، فإنها "تنكر بطريقة أو بأخرى نفس الحق لحكومته الشرعية، وتتهم الجيش السوداني بكل الشرور والآثام".
ورغم أن الفيتو الروسي جاء بالتنسيق الكامل مع الحكومة السودانية الشرعية؛ لتجنب فرض وصاية أجنبية على الشعب السوداني الأبي، فإنه يؤكد في المقابل على حقيقة دامغة وواضحة للعيان، وهي أن السودان قد تحول بالفعل إلى ساحة ومرتع للصراعات الدولية والإقليمية.
ولا شك أن بريطانيا – التي تحمل بكل فخر لقب "حاملة القلم" في مجلس الأمن – تحاول حاليًا بكل السبل المتاحة استعادة السودان إلى حظيرتها، بوصفه إحدى المستعمرات القديمة التي تجرأت وتمردت عليها، وتدرك تمام الإدراك أن الجيش والقوى الوطنية الشريفة على خلاف وتنافر تام مع المشروع المشبوه الذي تحاول لندن فرضه قسرًا عبر "تنسيقية تقدم"، وترى في رئيس الوزراء المستقيل عبدالله حمدوك وجهًا ملائمًا لتنفيذ ذلك المشروع الاستعماري البغيض، الذي يسعى جاهدًا لنهب ثروات وخيرات السودان، وهو ما ثبت يقينًا بعد بضعة أشهر فقط من الصراع الدامي، الذي أسفر عن حقائق جلية ومهمة، وهي أن الدعم السريع ليس سوى بندقية للإيجار، وأن "تنسيقية تقدم" ما هي إلا ذراع سياسية لهذا المشروع الخبيث، والمستفيد الأول والأخير بالطبع هو الكيان الصهيوني.
صفعة مؤلمة
لا ريب أن القرار البريطاني قد أُعد على نار هادئة في أروقة (تشاتم هاوس)، المعهد الملكي المرموق للشؤون الدولية، الذي يمثل أهم وأخطر مطابخ صناعة السياسة الخارجية البريطانية، وتقوده سيدة إنجليزية معروفة بمواقفها المتطرفة ضد الحكومات السودانية الوطنية، وهي روزاليند مارسدن، لكنها ربما فوجئت بالمظاهرات الحاشدة للجالية السودانية في بريطانيا، التي حاصرتها مع مجموعة "تنسيقية تقدم" داخل مبنى (تشاتم هاوس) في نهاية الشهر الماضي، ووجهت صفعة قوية على خد الإمبراطورية العجوز التي غربت شمسها منذ زمن بعيد، لتستحضر مشهد البواخر الإنجليزية التي جاءت تحمل المدافع والأسلحة الفتاكة للسودانيين لا الخير والنماء، وتُذكرنا بمرافعة مصطفى سعيد، بطل الروائي العظيم الطيب صالح في رائعته "موسم الهجرة إلى الشمال"، أمام المحكمة التي نصبوها له: "إنني جئتكم غازيًا في عقر داركم، قطرة من السم الذي حقنتم به شرايين التاريخ".
وبشكل عام، فإن الفيتو الروسي ليس كافيًا لحل المشكلة، فما زالت هناك أزمة طاحنة تحتاج إلى مواجهة قوية وصادقة، وهي الأزمة الإنسانية الأكثر فداحة في العالم بأسره، عنوانها الأبرز دموع ودماء السودانيين المسفوحة ظلمًا وعدوانًا على الأرض. إذ إن هناك مجموعة متوحشة، تملك قوة مسلحة غاشمة، تنتزع يوميًا حق الحياة من السودانيين الأبرياء، وتجبرهم قسرًا على النزوح والفرار بأطفالهم الصغار من الموت المحقق، ولا ترقب فيهم إلًّا ولا ذمة، الأمر الذي يضع الحكومة السودانية المنتخبة أمام مسؤولياتها التاريخية في حماية المدنيين العزل، وضرورة تفعيل الخطط الوطنية الطارئة، والقيام بكل ما هو ممكن ومتاح من أجل إنقاذ الأرواح والحفاظ على الحياة الكريمة في بلاد النيلين الخالدة.